اللجنة يا باشا!!
العلاقة بين الشعب المصري والسلطة الحاكمة ليست علاقة أحادية الاتجاه تعتمد فقط على القوانين واللوائح التي تفرضها الدولة. بل إنها علاقة معقدة تحمل بين طياتها مزيجًا من الاحترام والحذر، التعاون والمقاومة، وحتى التحدي الساخر أحيانًا. ومن بين أبرز مظاهر هذه العلاقة يظهر نوع فريد من السلوك الجماعي الذي يمكن وصفه بـ"التنبيه المتبادل"، أو كما يسميه البعض "روح التكاتف الشعبي"
والتنبيهات الضوئية على الطرقات
أحد أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة هو المشهد اليومي على الطرق المصرية. عندما يصادف السائقون لجنة مرور أو رادار لمراقبة السرعة، يقومون بتنبيه السيارات القادمة عن طريق استخدام الأضواء الأمامية. يتم ذلك عادة بتشغيل الأضواء بشكل متكرر وسريع، وهي إشارة متعارف عليها بين السائقين تعني: "احذر، هناك لجنة أو كاميرا مراقبة أمامك".
هذا السلوك يُعبّر عن حالة من التضامن غير المعلن بين الأفراد ضد ما يُعتبر نوعًا من الرقابة أو العقاب الذي تمارسه الدولة، حتى لو كان الهدف منه تنظيم المرور والحفاظ على الأرواح.
الغريب في الأمر أن هذه التنبيهات الضوئية قد أصبحت تقليدًا شعبيًا على الطرق المصرية، يتم بشكل عشوائي أحيانًا، حيث ينبه السائقون بعضهم البعض حتى لو لم يكونوا متأكدين من وجود لجنة فعلًا، كنوع من الروح الفكاهية أو التحذير المسبق من مخاطر محتملة على الطريق . او حتى من باب لفت انتباه السائقين و التأكد من رايتهم للسيارة .
المظهر الآخر لهذه العلاقة يظهر عندما تقوم شرطة المرافق بحملات لإزالة الباعة الجائلين وفرشاتهم في الشوارع. في هذا الموقف، يتدخل المارة بشكل لافت لمساعدة البائعين في إزالة بضاعتهم بسرعة قبل أن تصل الشرطة وتصادرها. هذا التفاعل لا ينبع من معرفة شخصية بين المارة والبائعين، بل هو جزء من الشعور الجماعي بالوقوف مع "المغلوب على أمره" ضد سلطة تُعتبر أحيانًا قاسية أو غير عادلة في تطبيق القانون.
يعكس هذا السلوك شعور المصريين بأنهم جميعًا يواجهون نفس الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، مما يجعلهم يتكاتفون بشكل طبيعي حتى لو كانوا لا يعرفون بعضهم البعض. فهناك شعور منتشر بأن القوانين والتطبيقات الحكومية ليست دائمًا عادلة أو متساوية، وبالتالي يصبح التضامن الشعبي نوعًا من التصدي لهذه "اللامساواة".
يمارس الشعب المصري هذا السلوك بخفة ظله وسرعة بديهته المعروفة. حتى في مواجهة السلطة، يُظهر الشعب نوعًا من التمرد المرح الذي لا يصل لحد التصعيد، لكنه يعبر عن روح المقاومة بشكل غير مباشر.لا يمكن إنكار أن السيارات قد لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز هذه الثقافة الشعبية. فالتنبيه بالأنوار أو "الفلاشات" ليس مجرد وسيلة لتفادي غرامة مرورية، بل هو تعبير عن شعور جماعي بالمشاركة والتكاتف. هذا السلوك يُظهر كيف تحولت المركبات إلى أداة اتصال بين المصريين، تساهم في خلق نوع من التواصل والتعاون اليومي على الطرقات، حتى بين الغرباء.
قد يرى البعض أن هذه السلوكيات تعرقل عمل السلطة أو تعكس عدم احترام للقوانين، بينما يعتبرها آخرون دليلًا على التكاتف المجتمعي في مواجهة الضغوط. وفي كل الأحوال، تبقى هذه المظاهر جزءًا أصيلًا من الهوية المصرية، تعكس روحًا شعبية تتميز بالذكاء الاجتماعي، والقدرة على التكيف، وحتى التحدي الساخر للواقع.
علاقة الشعب المصري بالسلطة ليست صدامية بالكامل، لكنها مليئة بالتعقيدات والتناقضات التي تعكس شخصية هذا الشعب الأصيل. بين التنبيه من "لجنة المرور" ومساعدة الباعة الجائلين، يمكن قراءة الكثير عن روح المصريين التي توازن بين احترام القانون والإحساس بالعدل الاجتماعي، مع لمسة من المرح والتكاتف الذي يُضفي على حياتهم طابعًا خاصًا.
تعليقات
إرسال تعليق